26 يوليو 2024

خطبة عن العناية بذوي الاحتياجات الخاصة

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ خلَقَ الإنسَانَ ولَم يَكنْ شيئًا مَذكُورًا، صوَّرَهُ فَجَعَلَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، أرسَلَ إليهِ رُسُلَهُ وَهَدَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُورًا، نَشهدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ إنَّهُ كانَ حِليمًا غَفُورًا، ونَشهدُ أنَّ سيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحمَّدًا عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ، كانَ لِرَبِّهِ عَبدًا شَكُورًا، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحَابِهِ، والتَّابعينَ ومَن تَبعَهُم بإحسانٍ وإيمانٍ إِلى يَومِ نَلقَى فيهِ كتابَنَا مَنشُورًا، أمَّا بعدُ:

فيَا مُسلِمونَ، اتقوا اللهَ حَقَّ التَّقوَى، ورَاقِبوا اللهَ في السِّرِّ والنَّجَوى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، فعن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فَقَالَ: “يَا أُمَّ فُلاَنٍ! انظري أَي السكَكِ شِئْتِ، حَتىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ[1]“، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها، وهذا من حلمه وتواضعه وصبره على قضاء حوائج ذوي الاحتياجات الخاصة.

وفي هذا دلالة شرعية على وجوب التكفل برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، صحيًّا واجتماعيًّا، واقتصاديًّا، ونفسيًّا، والعمل على قضاء حوائجهم، وسد احتياجاتهم، وعندما نتتبع أحوال هؤلاء المعاقين عبر العصور نجد في التاريخ القديم أنه في الدولة الرومانية التي تميزت بالصبغة الحربية عملت على التخلص من المعوقين؛ حيث وصف القانون الروماني الأصم بالعته والبلاهة، وقديمًا كان الفراعنة يتخلصون من الأطفال المعاقين، ولكنهم مع مرور الزمن اصطبغت قوانينهم بالروح الإنسانية، فنجحوا في استخدام بعض العقاقير الطبية التي تستخدم في علاج بعض حالات ضعف السمع، وكان الفيلسوف أرسطو يرى أن أصحاب الإعاقة السمعية لا يمكن تعليمهم، وكان أفلاطون يرى إخراج المعاقين من مدينته الفاضلة؛ لأنهم لا يؤدون المطلوب منهم لنجاح هذه المدينة، وكان القانون الإنجليزي القديم يحرم بعض فئات المعاقين من الحقوق والواجبات التي لهم.

أما في العهد الإسلامي، فقد اهتم الإسلام اهتمامًا كبيرًا بكل فئات المجتمع، وحرص المسلمون على الرعاية الكاملة للضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة، فلو افترضنا أن في المجتمع فئة قليلة من ذوي الاحتياجات الخاصة تكاد لا تذكر، فإن هذه القلة تحت نظام الإسلام وحمايته ستجد من يقف بجانبها ويساعدها، وعليه جاءت الآيات الكريمة في كتاب الله تعالى تؤكد للجميع أن الله تعالى يحث على نصرة الضعيف وإعانته قدر الاستطاعة.

والمتأمل في آيات الله تعالى يجد نفسه أمام آيات كثيرة توحي بهذا المعنى؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]، تدل الآية دلالة واضحة على أن الضعفاء والمرضى ليس عليهم أية مشقة إذا لم يقاتلوا مع إخوانهم الأصحاء.

وقد تكرر في القرآن لفظ: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [النور: 61]، ففي الموضع الأول يعني عدم الحرج في مسألة الأكل والشرب في بيوت الأقارب، والموضع الثاني عن القتال، ففي زمن صدر الإسلام نجد أنفسنا أمام منزلة كبيرة وضعها الله سبحانه لهؤلاء الضعفاء، ولعله من المناسب أن نذكر مكانة هؤلاء عند الله بعد أن آمنوا به وبرسوله ونصروا الدعوة الإسلامية منذ بدايتها، وتحمَّلوا في سبيلها الكثير.

إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أمامه مثلًا إيجابيًّا من أمثلة الاهتمام والرعاية، وهذا المثل القائم والخالد بخلود كتاب الله تعالى، وهو عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في قصة عبدالله بن أم مكتوم ذلك الأعمى الذي حضر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجلس معه كما تعود، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم فراغه وانشغاله بدعوة كفار مكة وسادتها، ومحاولة جذبهم إلى توحيد الله، وأدار وجهه عنه والتفت إليهم، وبالطبع لم ير ابن أم مكتوم ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أعمى، فجاء عتاب الله لنبيه: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 1 – 10].

وبهذه الآيات البينات أوضح الله تعالى لنبيه ولأمَّته أن المؤمن الضرير الكفيف هو أطيب عند الله من هؤلاء الصناديد الكفرة، فكان صلى الله عليه وسلم كلما رآه هشَّ له ورحَّب، ومع فقر ابن أم مكتوم وثراء هؤلاء القوم، فإنه عند الله أثقل ميزانًا وأحسن حالًا وأفضل مقامًا، وربما يكون ابن أم مكتوم نبراسًا لهؤلاء الضعفاء وكذلك الأغنياء.

واهتمَّ الخلفاء المسلمون بالمعاقين بعد ذلك؛ فمنهم من أعطى لهم راتبًا ثابتًا من بيت المال كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من أحصى عددهم، وقدَّم لهم الخدمات التي تناسب كل واحد منهم كعمر بن عبدالعزيز، كما أقام بعض الخلفاء مستشفيات للمجذومين كالوليد بن عبدالملك، وفي الفقه الحنفي أجاز أبو حنيفةَ الإنفاقَ على المعاقين من بيت مال المسلمين، وفي العصر الحالي وسَّعت الدول والحكومات دائرة الاهتمام بالمعاقين، فخصَّصَت نسبة ثابتة من الوظائف العامة لهم، ولم تمنَعِ المعاق من تقلُّد المناصب، ما دام كفئًا في عمله، كما خصصت لهم الأندية والمتنزهات التي تناسب أحوالهم، وهناك مقترحات لابتكار الطرق والوسائل التي تعين المعاق على إبداء رأيه، وإشراكه في الحياة في كثير من دول العالم.

وفي بلادنا نجد عناية فائقة ولا نبالغ إذا قلنا أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز قد حث على إحصاء عدد المعوقين في الدولة الإسلامية، ووضع الإمام أبو حنيفة تشريعًا يقضي بأن بيت مال المسلمين مسؤول عن النفقة على المعوقين، أما الخليفة الوليد بن عبدالملك فقد بنى أول مستشفى للمجذومين عام 88 هـ، وأعطى كل مقعد خادمًا وكل أعمى قائدًا، ولما ولى الوليد إسحاق بن قبيصة الخزاعي ديوان الزَّمنى بدمشق، قال: لأدعنَّ الزَّمِن أحب إلى أهله من الصحيح، وكان يؤتى بالزمِن حتى يوضع في يده الصدقة، والأمويون عامة أنشؤوا مستشفيات للمجانين والبلهاء، فأنشأ الخليفة المأمون مأوًى للعميان والنساء العاجزات في بغداد والمدن الكبيرة، وقام السلطان قلاوون ببناء مستشفى لرعاية المعوقين، وكتب كثير من علماء المسلمين عن المعاقين مما يدل على اهتمامهم بهم؛ مثل: الرازي الذي صنف (درجات فقدان السمع)، وشرح ابن سينا أسباب حدوث الصمم.

بل إن من العلماء المسلمين من كان يعاني من إعاقة، ومع هذا لم يؤثر ذلك عليهم، بل أصبحوا أعلامًا ينصرون هذا الدين بالقول والفعل، فمنهم:

1- أبان بن عثمان، كان لديه ضعف في السمع، ومع هذا كان عالِمًا فقيهًا.

2- محمد بن سيرين، كان ذا صعوبة سمع شديدة، ومع هذا كان راويًا للحديث ومعبرًا للرؤى.

وفي هذا الزمان نجد أمثلة كثيرة، ومنهم: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله مع أنه كان فاقدًا للبصر، فإنه كان إمامًا زاهدًا ورعًا ناصرًا للدين.