13 أكتوبر 2024

في ظلال حديث: احفظ الله يحفظك

الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة


سلسلة: في ظلال حديث: ((احفظ الله يحفظك))

الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة

(أكل الحلال – دفع الوسوسة)

ما زلنا بصدد بيان ما يحفظ به العبدَ المؤمنَ ربُّه، انطلاقًا من حديث: ((احفظ الله يحفظك))،

وقلنا: إن من أعظم ما يستوجب هذا الحفظ: اعتناء المؤمن بصلاته، وأداءها على وجهها مع الحفاظ على لُبِّها وجوهرها؛

وهو: الخشوع فيها، وحضور القلب عند أدائها، والإقبال على الله في حركاتها وسكناتها،

وذكرنا في المقال الأخير أن مما يعين على ذلك أمورًا كثيرة، أتينا على اثني عشر منها؛

وهي: إحسان الوضوء وإسباغه،

إرداف الوضوء بسنته – وهي ركعتان يُستحضر فيهما جلال الله تعالى –

متابعة المؤذن في ألفاظ الأذان مع حضور القلب،

أداء الصلاة في المسجد،

التجمل بأحسن الثياب وأنظفها،

تجنب الأطعمة ذات الروائح المؤذية للغير،

التزام دعاء الخروج من المنزل،

إحلال السكينة عند الذهاب إلى المسجد،

البدء بالرجل اليمنى عند دخول المسجد مع ذكر الدعاء المخصوص في ذلك،

ترك الالتفات في الصلاة لغير سبب،

ترك الصلاة عند حصول الشاغل المانع من الخشوع والتدبر: كحضور الطعام وقت الصلاة مع اشتهائه،

ومدافعة الأخبثين،

الصلاة إلى ما فيه تصاوير ملهية أو زخارف مشغلة…، ثم النظر إلى موضع السجود.

ومدار هذه الأمور – كما ترى – على تمحيض الالتجاء إلى الله وقت الصلاة، والاستنكاف عن الصوارف والشواغل؛

حتى لا ترى أمامك إلا الله؛ فقد أتى رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، حدثني حديثًا، واجعله موجزًا،

فقال النبي: ((صلِّ صلاة مودعٍ كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك، وايئس مما في أيدي الناس، تَعِشْ غنيًّا، وإياك وما يُعتذر منه))؛ صحيح الترغيب.

وهناك أمران آخران هما من أعظم ما يعين على هذا الخشوع:

1- أكل الحلال، وتطهير الرزق من الشوائب؛

إذ قبول الأعمال وزكاتها منوطان بهذا الشرط، والحرام يفسد كل ذلك، فيطرد الخشوع، ويضعف التدبر، ويمنع الخشية، ويمحق البركة؛

قال النبي: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]،

وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]،

ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟))؛ مسلم.

قال ابن رجب رحمه الله: “وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله”.

فقد يجتهد أحدنا في تفريغ القلب لربه، واستفراغ الوسع في الاستفادة من صلاته،

ثم يرى أن باله مشغول، وأن قلبه مغلق مصروف، وهو لا يدري أن الحرام تسرب إلى بطنه، واختلط بلحمه وعظمه؛

إما لأنه يأكل الربا، وإما لأنه يضيع حقوق الناس، وإما لأنه يغش في العمل والوظيفة.

فالبناء لا يكون متينًا إلا بقوة أسسه، وسلامة دعائمه؛ وقد قال بعض السلف:

“الحجر المغصوب في البناء أساس الخراب”،

وهو ما عبر عنه وهيب بن الورد رحمه الله حين قال: “لو قمت مقام هذه السارية، لن ينفعك شيء، حتى تنظر ما يدخل في بطنك: حلال هو أم حرام”،

وقال أبو عبدالله الباجي رحمه الله: “خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بالله، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإذا فقدت واحدة، لم يرتفع العمل”.

ونحن حينما نتحدث عن بعض الصالحين، نعتقد وكأننا نتحدث عن أناس من طينة أخرى، أو من عالم آخر،

مع أن الفارق بيننا وبينهم هو شدة التحري في ما يُدخِلون بطونهم؛ ولذلك كانوا يخشعون في صلاتهم، وتستجاب دعواتهم.

فهذا أبو بكر الصديق الذي خلد القرآن الكريم ذكره، ورفع بين العباد شأنه، تروي ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول:

“كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر،

فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟

قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه،

فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه”؛ البخاري، وفي رواية أنه قال: “والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها”.

وعبدالله بن المبارك رحمه الله يقول: “لأن أَرُدَّ درهمًا من شبهة، خير لي من أن أتصدق بمائة ألف درهم”،

وليس هو إلا ثمرة لصدق أبيه (المبارك)، الذي تورع عن الحرام، فاستجاب الله دعاءه،

ففتح عليه باب الرزق من حيث لا يحتسب؛ فقد كان عبدًا رقيقًا، أعتقه سيده، ثم عمل أجيرًا عند صاحب بستان، وذات يوم خرج صاحب البستان مع أصحاب له إلى البستان،

وقال للمبارك: “ائتنا برمان حلو”، فقطف رمانات، فقدمهن إليهم، فإذا منها الحامض والتالف،

فقال صاحب البستان: “أما تعرف الحلو من الحامض؟”،

فقال المبارك: “أنت ما أذنتَ لي أن آكل حتى أعرف الحلو من الحامض”،

فقال له: “أنت منذ كذا وكذا تحرس البستان، وتقول هذا؟”، وظن أنه يخدعه، فسأل الجيران عنه،

فقالوا: “منذ أتى هذا البستان ما أكل رمانة واحدة”، فتعجب صاحب البستان ودعاه وقال: “يا مبارك، ليس عندي إلا ابنة واحدة، فلمن أزوجها؟”،

فقال له: “اليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، والعرب للحسب والنسب، والمسلمون للتقوى”، فقال صاحب البستان: “ما رأيت أتقى لله منك”، فزوجه ابنته.

فسبحان الله! يتورع عن رمانة، فيسوق الله له البستان، وصاحبه، والذرية الصالحة.

والإمام البخاري رحمه الله ثمرة صلاح أبيه وورعه؛ فعن أحمد بن حفص قال: “دخلت على أبي الحسن؛

يعني: إسماعيل والد الإمام البخاري عند موته، فقال: لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة،

قال أحمد: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك”، وقلت: صلاح الآباء ينفع الأبناء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82].

ولم تكن نساء السلف بأقل شأنًا في ذلك من الرجال؛ فقد ضربن المثل في تحري الحلال، والورع عما فيه شبهة؛

فقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن امرأة كانت تعجن عجينًا، فلما بلغها موت زوجها،

رفعت يدها عن العجين وقالت: “هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء”؛ تقصد: صار للورثة حق فيه.

وتقول إحدى الزوجات الصالحات لزوجها، كلما هم بالخروج صباحًا لتحصيل القوت:

“يا فلان، اتق الله، ولا تطعمنا إلا طيبًا، إن جئتنا بقليل كثرناه، وإن لم تأتنا بشيء أعناك بمغزلنا”.

بهذا الورع استقامت حياتهم، وبأكلهم الحلال حضرت في الصلاة قلوبهم، وخشعت لله أعضاؤهم،

وبكت من خشية الله عيونهم، واقشعرت من ذكر الله جلودهم.

فكحِّل عينك بهذه النماذج الحية المشرقة من سلفنا الصالح، ثم اسكب العَبَرات على أحوالنا في أسواقنا،

ومتاجرنا، ووظائفنا، لتقارن بعد ذلك بين صلاتهم وصلاتنا، وخشوعهم وخشوعنا، والله المستعان.

2- وهناك سبب آخر من أسباب الخشوع في الصلاة، 

عظمت أهميته، فكثرت الأسئلة حوله، وهو: “محاربة الوسواس” الذي قد يعرض للمصلي،

فيشغله عن أعمال الصلاة، فيتيه فِكْرُه في أمور، ما تزال به حتى تلهيه عن صلاته،

بل قد تُفوِّت عليه هذه الصلاة بالجملة، حين يرتقي الأمر إلى ما يسمى بـ”مرض الوسوسة”،

التي من أخطر صورها: ما يشتكي منه كثير من الناس حين تتسلط عليهم أفعال وأفكار، فتضطرهم إلى التسلسل معها، وتكرارها المرة بعد الأخرى،

فإن لم يفعلوا، أحسوا بتوتر وضيق، وأقنعوا أنفسهم بعدم صحة عبادتهم، ويعتقدون أن هذا التوتر لا يزول إلا إذا كرروا الفعل، وتسلسلوا مع الفكرة.

والشيطان قاعد للمصلي بالمرصاد، متربص به، فلا يتركه حتى يقنعه بأن وضوءه غير صحيح،

وأنه أحدث فانتقض وضوؤه، وقد يُفاجأ بانتهاء الإمام من الصلاة، وهو لا يزال يكرر وضوءه؛

والله تعالى قال: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]،

وكان من دعاء النبي إذا أصبح وإذا أمسى: ((أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه))؛ رواه أبو داود.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره،

فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾،

وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى بقلبه، جاء من الوساوس أمور أخرى؛ فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق،

كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى، أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف:

“إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب؟”.

ولقد دلنا رسول الله على الدواء الناجع لمغالبة الشيطان في وسواس انتقاض الوضوء بخارجٍ، بأن يجعل اليقين مطيته،

والتثبت المادي سبيله، ولا يصغي لوسواس الشيطان؛ فعن عبدالله بن زيد قال:

((شُكي إلى النبي الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا))؛ متفق عليه،

وقال: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا – فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا))؛ مسلم.

وحتى إذا نجوت من وسواس الوضوء، قعد لك الشيطان بباب الصلاة، ما إن تكبر تكبيرة الإحرام، حتى تتكبكب عليك الأفكار من كل مكان،

وتنثال عليك الوساوس من كل صوب؛ فيحضرك الغائب، ويبين لك المفقود، وتؤزك المواعد،

وتأخذ لُبَّك المشاغل: فالزوجة بعثتك لشيء نسيته، والولد مريض يحتاج إلى دواء، وعمل كلفك به المدير لم تكمله، وسلعة طلبها زبون لم تحضرها…؛

يقول النبي: ((إن أحدكم إذا قام يصلي، جاءه الشيطان، فَلَبَسَ عليه حتى لا يدري كم صلى؟ فإذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين وهو جالس))؛ متفق عليه، وهما: سجدتا السهو.

وفي حديث آخر في الصحيحين يقول النبي: ((إذا أُذِّن بالصلاة، أدبر الشيطان له ضراط – أي: يخرج منه ريح من شدة الخوف – حتى لا يسمع التأذين،

فإذا سكت المؤذن أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة – أقيم للصلاة – أدبر، حتى إذا قُضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه،

يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى))؛

وفي لفظ: ((حتى لا يدري، أثلاثًا صلى أم أربعًا، فإذا لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا، سجد سجدتي السهو))،

وبيَّن النبي أن دواء ذلك الوسواس:

أن تستعيذ بالله من الشيطان، وأن تتفل برفق عن يسارك؛

فقد أتى عثمان بن أبي العاص النبي فقال: ((يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها عليَّ،

فقال رسول الله: ذاك شيطان يقال له: خَنْزَبٌ، فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني))؛ مسلم.

قال ابن القيم رحمه الله: “العبد إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتفل عن يساره، لم يضره ذلك، ولا يقطع صلاته، بل هذا من تمامها وكمالها”،

والتفل:

نفخ معه قليل من الريق، وقد نص أهل العلم أنه يكون إذا كان المصلي منفردًا، أو على يسار الصف،

فإن كان في الصف، فيكفيه أن يلتفت قليلًا عن يساره، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

والاستعاذة تنفع في وسواس الوضوء والصلاة،

وتنفع فيما هو أكبر من ذلك، حين يأتي الشيطان إلى أحدنا، فيحاول تشكيكه في عقيدته،

فيجعله يطرح السؤال مثلًا حول فائدة خلق الجنة والنار، مع أن الله خالق الإنسان وعالم بمصيره،

وهي أسئلة يلهج بها اليوم كثير من شبابنا – بل وأطفالنا – بفعل نزغات شياطين الجن وأيضًا شياطين الإنس؛

كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]؛

يقول النبي: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك، فليستعذ بالله، وليَنْتَهِ))؛ مسلم،

وعند أبي داود: ((… فإذا قالوا – يعني: الناس – ذلك، فقولوا: ﴿ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾، ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعذ من الشيطان)).

وبذلك يستعين على صرف ذهنه عن التمادي في التفكير في الأمر، والإعراض عن هذه الخواطر الشيطانية،

وترك الاسترسال معها، مع دعاء الله المستمر في صرف الوساوس عنه، ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]؛

وقد سُئل ابن حجر الهيثمي رحمه الله عن داء الوسوسة: هل له دواء؟ فأجاب:

“له دواء نافع، وهو الإعراض عنها جملة، وإن كان في النفس من التردد ما كان، فإنه متى لم يلتفت لذلك،

لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفَّقون”.

والحمد لله رب العالمين.

الصلاة

 يمكنكم متابعة برامج قناة الانسان و الموقع نور الاسلام