خطبة بعنوان: قصة حديث «من غشنا فليس منا»
المحتوى
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
الحمد لله خلق كل شيء بقدر، وأكرم الإنسان بالفكر والنظر، وشرع لتحصين ماله طرقا لا ضِرار فيها ولا ضَرر؛
فحرم أكل أموال الناس بالباطل والغش والغرر. وأشهد ألا إله إلا الله شهادة تجعلنا ممن وحد الله تعالى وشكر،
وممن آمن بالقضاء والقدر. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله من كان له خير قول وأفضل أثر،
وأصح الحديث والخبر، وأعظم شريعة تحمي الناس من المشاكل والخطر،
صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أكرم البشر، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يُنَبَّأُ فيه الإنسان بما قدم وأخر.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قدمنا لكم في الجمعة الماضية قصة من سيرة الرسولﷺ قطعت دابر الرشوة والارتشاء،
وذلك حين رجع أحد عماله الذين أرسلهم لجمع الزكوات واسمه عبد الله بن اللتبية؛
فبدأ يقول: “هذا من الزكاة وهذا هدية لي” فقال له النبيﷺ: «أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟»…
فتعالوا بنا اليوم نكشف الستار عن قصة أخرى نصلح بها ظاهرة أخرى منتشرة فينا ومتجذرة في معاملاتنا؛
مضمونها:
روى الإمام مسلم أن النبيﷺ خرج ذات يوم إلى السوق بعد سقوط المطر، وكان من عادتهﷺ أن يلاحظ معاملات الناس،
فيصحح الأخطاء، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فوجد رجلا يبيع تـمْرا ليس بها بلل! وما بال هذا لم يبلل المطر تـمْره!
وما كانﷺ ليتهم أحدا حتى يتأكد من خطئه، فأدخل يده في التمْر فوجده مبلولا من الداخل، فقالﷺ: «ما هذا يا صاحب التمر؟ ما هذا أيها التاجر؟
فقال التاجر: أصابه مطر يا رسول الله، فوضعت أسفله على أعلاه حتى يباع، فأنكر عليهﷺ هذا وأمره أن يدعه كما هو، لا يغطي عيبه، ولا يبع رديئه بجيده،
وتبرأﷺ ممن يفعل ذلك فقالﷺ: «أفلا جعلته فوقه كي يراه الناس من غشنا فليس منا».
ولا توجد كلمة تقشعر منها جلد المؤمن مثل قول النبيﷺ: «ليس منا»،
ويل لمن تبرأ منهﷺ، وهل تحلو الحياة لمن تبرأ منه صاحب الشفاعة العظمىﷺ؟
ثم سار الصحابة على هذا المنوال، فكانوا يراقبون الأسواق مراقبة صارمة، فيصححون الأخطاء،
ويحاربون ظاهرة الغش والخديعة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون،
وخصوصا منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقد مر ذات يوم على راع غنم فأراد أن يختبر ثقته وأمانته،
فقال بعني شاة أيها الراعي، والراعي لا يعرف عمر فقال: إنها ليست لي؛ فهي لسيدي، فقال أمير المؤمنين عمر،
قل له: أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟ فذهب عمر إلى سيده فاشتراه منه وأعتقه، فقال: مثلك لا يكون خادما مملوكا.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه بدوره يمر على صاحب محلبة يبع لبنا، فإذا هو يخلط الماء باللبن! فقال له أبو هريرة مستنكرا: كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة: خلص الماء من اللبن وخلص اللبن من الماء!
فلا غرابة في هذا الموقف من الصحابة رضوان الله عليهم ضد ظاهرة الغش،
فهم الذين تربوا في مدرسة أستاذها رسول اللهﷺ الذي يقول لأنس بن مالك فيما رواه الترمذي بسند حسن:
«يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، يا بني ذلك من سنتي،
ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» فإذا تبرأ النبيﷺ من الغشاش وعمله،
فإن خالي القلب من الغش يكون صاحب النبيﷺ في الجنة.
أيها الاخوة المؤمنون؛
لقد كشف الله للنبيﷺ عن حواجز الزمان والمكان، فتنبأ عن وقائع وأحداث فكانت كما أخبر في واقع الإنسان،
وفي ذلك قالﷺ فيما روى البخاري والنسائي:
«يأتي على الناس زمان، لا يبالي الرجل من أين أصاب المال، من حلال أم حرام»؛
ولعل هذا الزمان قد أطل علينا من خلال معاملاتنا، فظاهرة الغش بلغت في أسواقنا مبلغا خطيرا؛
فليت شعري ماذا يقول الرسولﷺ لو اطلع اليوم على أسواقنا؟
ليت شعري ماذا سيفعل عمر لو اطلع على معاملاتنا ؟ ليت شعري ماذا يكون موقف أبي هريرة لو وقف على متاجرنا؟
خذ لك جولة في السوق ليتراء لك التكالب على الأموال دون المبالاة يطرق الوصول إليها،
لتقرأ في وجوه الناس تعابير الشره والطمع والجشع، لترى الغش قد تجدر في كل شيء، أليس من الغش ما يفعل بعض التجار،
حين يعرض بضاعته على أنها صنف جيد، بينما هو يبيع أردأ الأصناف بأغلى الأثمان؟ أليس من الغش المغالاة في الأسعار إلى أضعاف الربح السائد في الأسواق؟
أليس من الغش أن نجد صناديق الخضر والفواكه ظاهرها جيد وجديد، وباطنها رديئ ومتعفن؟
أليس من الغش أن تشتري اللحم فيحلف لك صاحبها: أنها شاة لا تتجاوز سنة، إذ بها قد اشتعل رأسها شيبا، وبلغت من الكبر عتيا؟
فأين ذلكم العسل النقي الصافي الشافي الذي عهدناه عند آباءنا وأجدادنا، والذي قال الله تعالى فيه:
{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
فقد لوثته أيادي الغش؟
فأين زيت الزيتون الطاهر المبارك الذي يقول الله تعالى فيه:
{مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ}؟
وهل تدرون أننا كدنا نفقد الثقة في أسواقنا؟ فمن منا يشتري السلعة وهو في مأمن من الغش؟
فمن منا يطمئن لسلعة إذا اشتراها؟ أليس من العيب أن نجد غير المسلمين في الغرب والشرق
يطبقون أخلاق التجارة التي سنها لنا الإسلام يطبقون جميع القيم التي أوصانا بها الله عز وجل
ونحن عن ذلك من الغافلين؟ فهم يحرصون على الكيل والميزان حرصا يجعلك مطمئنا،
ويراقبون سلامة السلع وجودتها وأسعارها مراقبة تجعلك في مأمن من ضربات الغش،
الشيء الذي وضع سلعتنا في الحضيض إذا ما قيست بسلعة الخارج؛ فبسبب ظاهرة الغش المستفحلة أصبح من عادة التجار عندنا إذا أرادوا أن يروجوا لسلعته،
لا يجدوا وصفا أنسب لها من أن يقول: “إنها من الخارج”؟! عار علينا أن نحارب منتوجاتنا بغشنا،
ويل لاقتصاد أمة يروج تجارها لمنتوجات أعدائها على حساب منتوجاتها، لقد أخذ الجشع بمجامع قلوبنا،
فقصر بعد نظرنا، فلا نكاد نرى إلا الأكل بين أيدينا، دون أن نفكر في أكل غدنا ومستقبلنا،
فصرنا نضيع مستقبلنا بملذات يومنا، ناسين أننا لن ينالنا من الرزق إلا ما كتب الله لنا،
يقول الرسولﷺ: «إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب،
ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته».
والتجارة في اقتصاد الأمة
هي الدم الذي يجري في شريانها، هي الروح التي تحيى به معاملاتها،
فإذا فسدت التجارة فسد دم الأمة، وهلكت روحها، فتكون عرضة للأمراض والفشل والتعاسة،
يقول الرسولﷺ: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميص؛ إن أعطى رضي، وإن لم يعط لم يرض»،
ويقولﷺ أيضا: «ما طفف قوم الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين» والتطفيف هو الغش في البيع والشراء،
وفي القرآن الكريم 114 سورة لم يبدأ منها بالويل إلا سورتان: الأولى في أموال الناس وأغراضهم:
{ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}،
والثانية في عورات الناس وأعراضهم: {ويل لكل همزة لمزة}؛ فاتقوا أغراض الناس واعراض الناس.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين…
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…
يمكنكم متابعة برامج قناة الانسان و الموقع نور الاسلام
More Stories
كيف تستثمر الحائض ليلة القدر؟
هل أفطر إذا أستعملت قطرة العين؟
أعظم نعمة بعد نعمة الإسلام