3 أكتوبر 2024

خطبة بعنوان : المرور على الصراط .


خطبة:بعنوان. المرور على الصراط .

الخطبة الأولى.

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ،

وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله – عباد الله – حق تقاته: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

عباد الله: إن يوم القيامة يوم عظيم، يوم كان شره مستطيراً، وكان يوماً عبوساً قمطريراً،

وطول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، ذكَّر الله عباده به ليحذروا شر ذلك اليوم وليستعدوا له.

وقد سبق أن ذكرنا في خطب ماضية مشاهد يوم القيامة والحشر، وبعض ما يكون فيه من الأهوال،

ولا شك أن التفكر في أهوال الآخرة هو الضامن لإصلاح النفوس، وتغيير الحال إلى الأفضل،

والعظة والاعتبار باليوم الآخر هي التي تغير سلوك الناس، وتوقظ الغافلين، وتنبه السادرين في غيهم.

عباد الله،

دلَّت النُّصوص من الكتاب والسُّنَّة وإجماع سلف الأمَّة على أنَّ الصراط حق وهو الجسر المنصوب على متن جهنم – أعاذنا الله منها – يمرُّ الناس عليه على قدْر أعمالهم،

وعليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمَن مَرَّ على الصراط دخَل الجنَّة، ومَن خطفَتْه تلك الكلاليب دخَل النار،

فيمر الناس عليه على حسب أعمالهم، فناجٍ مخدوش، وناجٍ مُسلَّم، ومكردس في نار جهنَّم، فإذا عبَرُوا عليه وُقفوا على قنطرةٍ بين الجنَّة والنار، فيُقضَى لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخول الجنَّة.

والصراط حق واعتقاد وجوده واجب، وهو مما يعتقده أهل السنة والجماعة.

قال العلامة ابن عثيمين:

“حكم من أنكر وجوده إن كان جاهلاً فإنه يُعلم حتى يتبين له، فإذا بلغ بالأحاديث الواردة في ذلك فإنه يجب عليه أن يعتقده،

فإن أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به كان مرتداً كافراً لتكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم” ا.هـ. فالصراط ثابتٌ بالكتاب، والسنَّة، واتفق أهل السنَّة على إثباته.

قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71] وقد فسَّرها عبدُالله بن مسعود، وقتادةُ، وزيد بن أسلم بالمرورِ على الصراط، وفسَّرها جماعة منهم ابن عباس بالدخول في النارِ، لكن ينجون منها.

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “ثم يُضرَب الجسرُ على جهنَّم، وتحِلُّ الشفاعةُ، ويقولون: اللهم سلِّمْ سلِّمْ”؛ متفق عليه.

وأما صفة الصراط: فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصراط فقال:

“مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عليه خطاطيفُ وكلاليب، وحسَكة مفلطحة، لها شوكة عُقَيفاء، تكون بنجدٍ،

يقال لها: السَّعْدانُ “؛ رواه البخاري. وله من حديث أبي هريرة: “.. وبه كلاليبُ مثلُ شوك السَّعدان،

غير أنها لا يعلم قدرَ عِظَمها إلا اللهُ، تخطف الناس بأعمالهم”. وفي صحيح مسلمٍ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: بلغني أنه أدقُّ من الشَّعر، وأحدُّ من السيف،

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طريقٌ واسع، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:” إنه دحض ومزلة “،

وهذا لا بد أن يكون واسعاً يسلكه الناس. وليس المهم أن نعرف هل هو واسع أو ضيق، لكن المهم أن نعرف كيف يسير الناس عليه، ولماذا اختلف سير الناس عليه.

نعم – عباد الله

– يختلف الناس في المرور على الصراط، إما كلمح البصر، أو كالبرق، أو كالريح، أو كالفرس الجواد، أو كركاب الإبل،

ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يسعى سعياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يكردس في نار جهنم ويعذب بقدر ذنوبه ومعاصيه. فلا يمر عليه إلا المؤمنون، ممن كتب الله لهم الجنة.

أما الكفار فإنهم لا يعبرون على الصراط، وإنما يحشرون إلى جهنم (وِرْدًا) كما قال الله عز وجل؛

لأنهم لم يكونوا عابرين على الصراط في هذه الدنيا فيكون جزاؤهم أن يحشروا إلى النار

بدون أن يعبروا على هذا الصراط، فيساقون إلى النار مباشرة، نسأل الله العافية والسلامة.

وأول مَنْ يجيز على الصراط رسولُ صلى الله عليه وسلم وأمته ثبت في الصحيحين

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه: “

ويضرب الصراط بين ظهرانَيْ جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل،

ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم…” الحديث.

وأول منْ يعبر الصراط من هذه الأمة فقراء المهاجرين،

قال اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟

فقال:” هم في الظلمة دون الجسر”، قال اليهودي: فمن أول الناس إجازة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ” فقراء المهاجرين” رواه مسلم.

فأول من يعبر الصراط فقراء المهاجرين، لقد صبروا وأوذوا وأُخرجوا من ديارهم

وما كان لهم مأوى وأووا إلى الله وهاجروا إليه وإلى رسوله.

وهناك أمران عظيمان عند الله يقومان على جنبتي الصراط قال صلى الله عليه وسلم:

“وتُرسل الأمانة والرحم فتقومان في جنبتي الصراط يميناً وشمالاً”. رواه مسلم.

وذكر الأمانة والرحم في هذا الموقف العظيم فيه تأكيد على حق هذين الأمرين وعظيم شأنهما،

يوقفان هناك للأمين والخائن والواصل والقاطع فيحاجان عن المحق ويشهدان على المبطل،

فعلينا عباد الله رعاية الأمانات وأداؤها وبر الوالدين وصلة الأرحام.

ويعطي الله المؤمنين نورا على قدر إيمانهم وأعمالهم:

﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الحديد: 12].

هذا حال المنافقين يطفئ الله نورهم كما قال تبارك وتعالى:

﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13].

قال الكلبي: يستضيء المنافقون بنور المؤمنين، ولا يعطون النور، فإذا سبقهم المؤمنون

وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين، انظرونا نقتبس من نوركم. اهــ. نعوذ بالله من الخزي والندامة.

أمَّا المؤمنون فإنهم يدعون الله تعالى أن يتمم لهم النور،

قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].

وإذا تجاوز الناس الصراط وعبروا فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، قال عليه الصلاة والسلام: “يخلُص المؤمنون من النار،

فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فَيُقَصُّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أُذن لهم بدخول الجنة،

فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا” رواه البخاري.

فهذه القنطرة بعد الصراط يحبسون عليها للتهذيب والتنقية لمظالم كانت بينهم،

ثم يدخلون الجنة بعد أن يشفع النبي عليه الصلاة والسلام إلى ربه في فتح أبواب الجنة،

فيشفع إلى الله عز وجل أن تفتح أبواب الجنة فتفتح، ويكون أول من يدخلها هو محمد صلى الله عليه وسلم.

والقنطرة هي الجسر وما ارتفع من البنيان وقيل: إن المراد بها طرف الصراط مما يلي الجنة،

وقيل: صراط آخر خاص بالمؤمنين يُقتص فيه لبعضهم من بعض ويؤخذ للمظلوم حقه، والأظهر أنها قنطرة مستقلة

وليست متصلة بالصراط العظيم المضروب على النار. قال الحافظ:” واختلف في القنطرة المذكورة

فقيل هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة. وقيل إنها صراط آخر، وبه جزم القرطبي”. فتح الباري (11 /406).

وقوله صلى الله عليه وسلم: ” فيحبسون ” قال القرطبي: هذا في حق من لم يدخل النار من عصاة الموحدين أما من دخلها ثم أخرج منها فإنهم لا يحبسون “. (التذكرة 408).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الخبث شيء،

فإن ذلك موجب للفساد، أو غير ممكن‏. ‏‏ بل إذا كان في النفس خبث طهرت وهذبت، حتى تصلح لسكنى الجنة، ‏إلا طيبة بل إن كان في النفس خُبث طُهرت وهُذبت،

كما في الصحيح أن المؤمنين إذا نجوا من النار وقفوا على قنطرة” مجموع الفتاوى: 226.

فأهل الإيمان والتقوى يدخلون الجنة وأنفسهم نظيفة وصدورهم سليمة: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].

نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يُعيذنا من النار، وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم…

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد:

فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا على الصراط المستقيم، فإن الناس يوم القيامة يعبرون على الصراط على قدر أعمالهم،

فمنهم السريع ومنهم البطيء على حسب سيرهم على صراط الله المستقيم في هذه الدنيا،

فمن كان مستقيماً على الصراط في هذه الدنيا مسابقاً إلى الخيرات كان مستقيماً على صراط الآخرة سابقاً فيه،

ومن كان دون ذلك كان دون ذلك، وربما يمر بعض الناس به فيلقى في جهنم ويعذب فيها بقدر عمله ثم ينجو فسير العبد على الصراط كعمله جزاءً وفاقاً.

عباد الله: من أراد النجاة فلينجُ من الآن قبل أن يندم حين فوات الأوان، بتحقيق التوحيد والإيمان وتقوى الله والمبادرة بالتوبة النصوح ومجانبة الظلم. قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72].

اللهم آمن يوم القيامة فزعنا، ويسر حسابنا، وثقل ميزاننا، وثبت على الصراط أقدامنا، ونجنا من النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار.

هذا وصلوا وسلِّموا عباد الله… ••

يمكنكم متابعة برامج قناة الانسان و الموقع نور الاسلام