في أوائل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد جهره بالدعوة وقبل الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، وقعت معركة بين فارس والروم، وانتصر فيها الفرس. والمسلمون كانوا يتمنون ويحبون أن ينتصر الروم لأنهم نصارى أهل كتاب، وكانت عاطفة المشركين مع الفرس لأنهم مجوس وأهل أوثان، فلما انهزمت الروم من الفرس فرح المشركون من أهل مكة، بينما حزن المسلمون كثيراً لما حدث، فأنزل الله تعالى قوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}(الروم: 3:1). وكلمة “بِضع” في اللغة تدل على ما بين ثلاث وتسع، وقد تحقق بالفعل انتصار الروم على الفرس بعد سبع سنين من نزول هذه الآيات القرآنية.
قال السعدي في تفسيره: “كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض، وكان بينهما من الحروب والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة. وكانت الفرس مشركين يعبدون النار، وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والإنجيل وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس، فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس، وكان المشركون – لاشتراكهم والفرس في الشرك – يحبون ظهور الفرس على الروم. فظهر الفرس على الروم فغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم بل بأدنى أرضهم، ففرح بذلك مشركو مكة وحزن المسلمون، فأخبرهم الله ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس {فِي بِضْعِ سِنِينَ} تسع أو ثمان ونحو ذلك، مما لا يزيد على العشر، ولا ينقص عن الثلاث”.
ولما نزلت هذه الآيات القرآنية من سورة الروم والتي تبشر المسلمين بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين، وقع حوار ومجادلة بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأحد المشركين حول الحرب بين الروم والفرس، فراهن أبو بكر رضي الله عنه أحد المشركين على انتصار الروم خلال خمس سنوات، وذلك قبل تحريم الرهان في الإسلام.
عن نيار بن مكرم الأسلمي رضي الله عنه قال: (لمَّا نزلت: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}(الروم: 3:1) كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم (منتصرين عليهم)، وكان المسلمون يحبون ظهور (انتصار) الروم عليهم لأنَهم وإياهم أَهل كتاب، وفي ذلك قول الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأَهل كتاب ولا إيمان ببعثٍ، فلمّا أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكرٍ الصّديق يصيح في نواحي مكة: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}، قال ناسٌ من قريش لأبي بكر فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبُك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفَلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى ـ وذلك قبل تحريم الرِّهان ـ، فارتَهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرِّهان وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع، ثلاث سنين إلى تسع سنين؟ فسَمِّ بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، قال: فسمُّوا بينهم سِتَّ سنين. قال: فمَضَتِ الستُّ سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رَهن أبي بكر، فلما دخَلَتِ السّنة السابعة ظهرَتِ الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ستّ سنين، قال: لأن الله تعالى قال: في بِضع سنين. قال: وأسلَمَ عند ذلك ناسٌ كثير) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وفي رواية أخرى صححها الألباني: (فجعل (أبو بكر) أجل خمس سنين فلم يظهروا (ينتصر الروم على الفرس)، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا جعلته إلى دون ـ قال: أراه العشر ـ، قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر، قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}، قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر).
وسبب فرح المؤمنين بانتصار الروم على الفرس: أن الروم كما هو معلوم كانوا نصارى أهل كتاب, والفرس كانوا أهل وثنية وشرك, فالروم أقرب إلى المسلمين من الفرس من هذه الناحية. ومن ناحية أخرى هذا الفرح كان مقابلا لفرح مشركي قريش حين انتصر الفرس على الروم أولاً ـ لاشتراك قريش والفرس في الوثنية والشرك ـ . ومن ناحية ثالثة: كان فرح المسلمين بانتصار الروم على الفرس لما فيه من دليل على إعجاز القرآن الكريم وصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أخبر عن أمر غيبي قبل وقوعه بعدة سنوات، ووقع كما أخبر به، فقد انتصر الروم على الفرس بعد أقل من عشر سنوات.. وقيل أيضا: إن سبب فرح المؤمنين إنما كان بانتصار المسلمين على مشركي قريش، الذي وافق انتصار الروم على الفرس.
قال ابن عطية في تفسيره: “والنصر الذي يفرح به المؤمنون يحتمل أن يشار فيه إلى نصر الروم على فارس وهي نصرة الإسلام .. ويحتمل أن يشار فيه إلى نصر يخص المؤمنين على عدوهم ـ إما يوم بدر وإما يوم بيعة الرضوان ـ، ويحتمل أن يشار به إلى فرح المسلمين بنصر الله إياهم في أن صدَّق ما قال نبيهم من أن الروم ستغلب فارس، فإن هذا ضرب من النصر عظيم”.
لقد كان إخبار القرآن الكريم عن غلبة الروم للفرس خلال بضع سنين كما جاء في سورة الروم، من دلائل إعجاز القرآن الكريم، ومن دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقاً، لوقوع الأمر كما أخبر الله تعالى به رسوله في كتابه العظيم، قال الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(الروم 5:1). قال ابن كثير: “هذا الذي أخبرناك به – يا محمد – مِن أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق، وخَبَر صدق لا يُخلف، ولا بد من كونه ووقوعه”، وقال السعدي: “وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووُجِدَت في زمان من أخبرهم اللّه بها من المسلمين والمشركين”.
More Stories
عجائب الهدهد في القرآن
قصص أهل العلم
أروع قصة حب في تاريخ