11 ديسمبر 2024

ترجمة شيخ الإسلام الحنفي محمّد عبّاس(1899 ـــــ 1979م

) ولد العلاّمة الجليل سماحة الشّيخ محمّد بن الطيّب عبّاس بمدينة تونس 1899م، وبعد أن حفظ نصيباً من القرآن الكريم وتعلّم مبادئ اللّغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة التحق بجامع الزيتونة المعمور حيث تتلمذ على نخبة من علماء عصره نخصّ بالذكر منهم :العلاّمة الشّيخ محمّد بن يوسف، وسماحة الأستاذ الإمام محمد العزيز جعيّط، وقد أخذ عن شيوخه مختلف العلوم الشّرعيّة من فقه وأصول وتفسير وحديث إلى أن أحرز شهادة التطويع ثمّ اجتاز على التوالي بنجاح مناظرة التدريس من الطبقة الثّانية ومناظرة التدريس من الطبقة الأولى، ولبث مدرّساً بالجامع الأعظم مدّة سنوات عديدة وقد تخرّجت عليه جموع غفيرة من الطلبة الّذين شغلوا أعلى المناصب في التربية والتعليم والقضاء . عيّن الشّيخ محمّد عبّاس حاكماً بالمجلس المختلط، ثمّ تولّى خطّة قاضٍ حنفي سنة 1945م، وفي سنة 1947م اختير ليتولّى منصب شيخ الإسلام الحنفي بالمجلس الشّرعي وهو أعلى رتبة دينيّة فكان مثال الرجل الصّالح النزيه يسير على خطى السلف، فتقلّدها بأمانة فكان شيخ إسلام بحقّ يذبّ عن الإسلام ومبادئه السمحة. وبقي في هذا المنصب إلى أن تمّ حلّ المجلس الشّرعي وتوحيد القضاء إثر الاستقلال، فقدّم استقالته وتفرّغ إلى إلقاء دروس الوعظ والإرشاد بجامع الزيتونة المعمور . ترأّس سماحة الشّيخ محمّد عباس المؤتمر القومي الزيتوني الثالث المنعقد أيام 1 ـ 2 ـ 3 من سنة 1955م بالحيّ الزيتوني والمخصّص لبحث القواعد الأصليّة الّتي يجب أن يقوم على مقتضاها التعليم القومي الزيتوني والخطوط الرئيسيّة لمناهجه، وفي حفل الافتتاح ألقى سماحته خطاباً قيّماً بيّن فيه دعوة الإسلام إلى العلم والمعرفة إذ أنّ أوّل ما نزل من القرآن الكريم كان يدعو إلى القراءة والكتابة وفي ذلك دليل على المنزلة الخاصّة الّتي يحظى بها العلم في الإسلام، ودعا رحمه الله إلى التزوّد من مختلف العلوم؛ إذ العلم المطلوب في القرآن هو جميع العلوم الّتي توصل إلى معرفة الله وتقود إلى رفع المستوى العقلي والوجداني عند الإنسان وقد أوكل الله مهمّة تبليغ هذه العلوم إلى العلماء الّذين هم ورثة الأنبياء وحمّلهم مسؤوليّة ذلك. وأشار رحمه الله بعد ذلك إلى المراحل الّتي مرّ بها التعليم بالقطر التونسي منذ عهد عقبة بن نافع رضي الله تعالى عنه إلى السّنوات الأخيرة من العصر الحديث مع بيان الأطوار الّتي مرّ بها التعليم بجامع الزيتونة المعمور وفترات الازدهار الّتي شهدها خاصّة في عهد الدولة الحفصيّة والدولة الحسينيّة، وختم خطابه بالدعوة إلى إدخال إصلاحات جديدة على برامج التعليم الزيتوني حتّى يواكب العصر . تفرّغ الشّيخ محمّد عبّاس بعد الاستقلال لإلقاء دروس منتظمة بجامع الزيتونة المعمور خصّصها للعامّة حتّى يتفقّهوا في أمور دينهم عملاً بقول الرّسول ﷺ : «من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدّين»، وكان درسه مشوّقاً يشدّ السّامع إليه ويفهمه الخاص والعام لما تميّز به من سلاسة في التعبير وقدرة في الإبلاغ فيحاول قدر الإمكان أن يرسّخ المعلومة في ذهن السّامع بأسلوب ميسّر سهل . ولم تقتصر دروسه في جامع الزيتونة على الرجال فقط، بل كان يلقي درساً خاصّاً بالنّساء إيماناً منه بأنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة، ومن أجل ذلك كسب شيخنا رحمه الله حبّ النّاس لتفانيه في خدمة الإسلام والمسلمين . تولّى إمامة جامع القصبة مدّة سنوات طوال إلى أن أعفي من هذه المهمّة سنة 1960م، وقد عرف منبر الجامع الحفصي خطبه ومواعظه البليغة وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ودعوته إلى الله تبارك وتعالى وتوجيه المسلمين وإرشادهم إلى ما يضمن لهم السعادة في الدارين، فحظي بمحبة المصلّين واحترامهم والتزامهم بأحكام الله الّتي يدعوهم إليها . لقد اتّصف الشّيخ محمّد عبّاس بدماثة الأخلاق وبتقوى الله والثبات على المبدأ لا تأخذه في الله لومة لائم كما تميّز بنشاطه الدّيني المكثّف وكثرة خطاه إلى المساجد وتعلّقه ببيت الله الحرام، فقد زار البقاع المقدسّة ستّ مرات وقد أهّلت هذه الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة شيخنا ليكون محبوباً من جميع النّاس وعلماً من أعلام الإسلام البارزين في بلادنا . انتقل الشّيخ محمّد عبّاس إلى جوار ربّه تعالى في السّادس من شهر جويلية سنة 1979م، ودفن بمقبرة الزلّاج وقد أبّنه العلاّمة الشّيخ محمّد الشّاذلي النيفر عميد الكليّة الزيتونيّة للشّريعة وأصول الدّين آنذاك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبله بالرضى والمغفرة وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء إنّه سميع مجيب.